1 ـ تراجع دور الأُسرة :
كانت الأسرة وما تزال حجر الأساس في العملية التربوية ، وإذا كان دورها قد تراجع((1)) في الآونة الأخيرة ، فلأ نّها هي التي فسحت المجال لغيرها من الوسائل أن تأخذ مكانها ، بدلاً من أن تكون بمثابة أياد مساعدة لها في دورها الأساس .
«لقد قامت بعض الدول كالصين والاتحاد السوفيتي (قبل انهياره) بتكوين منظمات معلنة ومؤسسات غير معلنة لأداء دور الأسرة ليتمكنوا من نقل القيم التي يريدونها هم ، لا الأبوان ، إلى الأطفال ، وأهم ما استند إليه هؤلاء في الإقدام على عملهم هذا أنّ المربين ذوي
الخبرة والتجربة ، هم أقدر على نقل هذه القيم إلى الأطفال من الوالدين الذين تعوزهم التجارب والخبرات وخاصة الأميّين منهم»(2) .
التجربة أثبتت فشل هذه المحاولات حيث كان للفصل بين الأطفال والوالدين تبعاته الثقيلة وثماره المرّة ، لكنّ المجتمعات المعاصرة راحت توكل جانباً أو جوانب من دورها المعهود إلى مؤسسات أخرى قد تكون منافسة لكنّها قطعاً ليست بديلة .
إنّ انشغال الأب أو الأبوين في العمل خارج المنزل طوال النهار سوف يؤثر على مستوى تربيتهما ومتابعتهما لأبنائهما وبناتهما ، مما يفتح الباب لدخول الانحراف بلا صعوبات لا سيما إذا كانت خلفيات الأبناء والبنات هشّة ، أي لم يبذل الوالدان الجهد المطلوب في إعدادهم وتربيتهم لتحمل مسؤولياتهم ووعيهم لمخاطر الانحراف وآثاره .
العديد من الدراسات الميدانية التي أجريت على شرائح وعينات من الشبان والفتيات أودعوا السجن بسبب انحرافهم وجرائمهم ، أثبتت أن انصراف الأبوين أو انشغالهما كان أحد أهمّ ، بل لعلّه أوّل الأسباب ، التي جعلتهم يصلون إلى ما وصلوا إليه .
إنّ المشاكل التي تعصف بالأسرة ، والنزاع الدائر بين الوالدين وعدم اتفاقهما على كلمة سواء في تربية الأبناء ، أو ما يشهده البيت من التصدّع المستمر ، يجعل الأبناء إمّا انطوائيين ، وإمّا أن يهربوا من البيت ليرتموا بأحضان الأصدقاء قليلي التجربة ، وربّما استغلّ هؤلاء الظروف البيتية التي يعاني منها هذا الشاب وتلك الفتاة لدفعهما في طريق الانحراف .
أمّا إذا كان الأبوان منفصلين ويعيش الأبناء إمّا تحت رحمة أمّ جديدة ، أو في اجواء الطلاق النفسية التي تخيِّم بظلالها القاتمة على نفوس الأبناء والبنات ، فإنّ ذلك يكون دافعاً آخر إلى الانحراف لانعدام الرعاية والمراقبة ، والحرمان من العطف والحنان والتوجيه السليم .
وما ينبغي الالتفات إليه هنا ، هو أنّ بعض الأسر تعمل ـ وبغير قصد في أكثر الأحيان ـ لدفع فلذات أكبادها للانحراف ، إذا أساؤوا التصرف معهم فبدلاً من أن يكونوا الصدور المفتوحة ، والعقول المفتوحة ، والآذان المفتوحة التي يركن إليها الأبناء والبنات في الحاجة إلى المشورة وبث الهموم والتعاون في حل المشكلات ، يكونون غرباء عن أبنائهم ، أو لا يشعرون بالمسؤولية إزاءهم سوى مسؤولية الإطعام والإكساء ، حتى إذا وقع الابن أو البنت في مشكلة عويصة ، أو انزلقا إلى منحدر خطير ، صرخ الوالدان كمن أفاق من نومه فزعاً : ماذا هناك ؟ لم نكن أبداً نتوقع ذلك !
وقد لا تكون الصدمة جرّاء انحراف أحد الأولاد ، وإنّما جرّاء الحرج الشديد الذي يمكن أن يسبّبه انحرافه في الوسط الاجتماعي الذي سيطلع على ذلك .
إن تراجع دور الأسرة واضح وخطير ، فالأم التي كانت تتولى تربية ابنتها لتكون زوجة صالحة ، وأمّاً صالحة ، تترك لها اليوم أن تتلقى ذلك من الروايات والقصص والأفلام والمسلسلات التي تخرّج جيلاً أقل ما يقال عنه أ نّه هجين